لطالما كان الحديث عن الجنسانية والتربية الجنسية في المجتمعات العربية موضوعًا محاطًا بالقيود والمحرمات، حيث يُنظر إليه على أنه تهديد للثقافة والأخلاق العامة، بدلاً من اعتباره أداة أساسية لحماية الأفراد وتمكينهم من اتخاذ قرارات صحية وصحيحة بشأن أجسادهم وعلاقاتهم. في ظل هذا التعتيم، تعاني النساء والفتيات من غياب المعلومات الصحيحة حول الصحة الجنسية والإنجابية، وانتشار الخرافات، وزيادة معدلات العنف القائم على النوع الاجتماعي، والزواج المبكر، والممارسات الضارة مثل ختان الإناث.
لكن لماذا لا تزال الجنسانية غائبة عن المناهج الدراسية؟ وما هي التبعات الحقيقية لهذا الغياب على النساء والمجتمع؟ وهل يمكن دمج التربية الجنسية في التعليم بطريقة تتناسب مع القيم والثقافة العربية دون إثارة الجدل؟
رغم أن العديد من الدول الغربية قد تبنّت برامج شاملة للتربية الجنسية، لا تزال معظم الدول العربية ترفض تضمين هذه الموضوعات في مناهجها الدراسية، بحجة أن الحديث عن الجنس سيؤدي إلى تشجيع السلوكيات “غير الأخلاقية” بين الشباب، في حين أن الأدلة العلمية تؤكد أن التثقيف الجنسي لا يؤدي إلى زيادة النشاط الجنسي، بل يقلل من السلوكيات الخطرة، ويزيد من الوعي بالصحة الجنسية والإنجابية.
تقول الباحثة التونسية فاطمة بن سالم، المتخصصة في الصحة الإنجابية والجندر، إن “غياب التعليم الجنسي في المدارس يجعل الأطفال والمراهقين يعتمدون على مصادر غير موثوقة للحصول على المعلومات، مثل الإنترنت، أو الأقران، أو حتى الأفلام الإباحية، مما يؤدي إلى تشويه فهمهم للعلاقات الجنسية والجسد.”
وتضيف أن “المرأة هي الضحية الأولى لهذا الغياب، حيث تدخل الفتيات إلى مرحلة البلوغ والزواج دون أي معرفة حقيقية بكيفية التعامل مع التغيرات الجسدية، أو فهم حقوقهن الجنسية، أو حماية أنفسهن من العنف والاستغلال.”
كيف يؤثر غياب التعليم الجنسي على النساء والفتيات؟
غياب التثقيف الجنسي يؤدي إلى تداعيات خطيرة على النساء والمجتمع ككل، حيث يساهم في:
انتشار المفاهيم الخاطئة حول الجسد والعلاقات
تعتقد العديد من الفتيات أن الدورة الشهرية مرض، أو أن ممارسة الرياضة قد تؤثر على “عذريتهن”، بسبب انعدام التوعية العلمية حول أجسادهن.
لا يدرك الكثيرون أن بعض الأمراض المنقولة جنسيًا قد لا تظهر لها أعراض واضحة، مما يعرض النساء لخطر العدوى دون معرفة طرق الوقاية.
ارتفاع معدلات العنف الجنسي والزواج القسري
عدم معرفة الفتيات بحقوقهن الجنسية يجعلهن أكثر عرضة للوقوع ضحايا للعنف الجنسي أو الزواج المبكر.
في بعض المجتمعات، يتم تزويج الفتيات القاصرات دون أي فهم حقيقي لما يعنيه الزواج من مسؤوليات جنسية وإنجابية، مما يؤدي إلى مشكلات صحية ونفسية خطيرة.
ضعف القدرة على اتخاذ قرارات صحية
بدون تعليم جنسي، لا تعرف العديد من النساء والفتيات كيفية استخدام وسائل منع الحمل أو متى يكون الحمل غير صحي.
يؤدي ذلك إلى معدلات عالية من الحمل غير المخطط له، والإجهاض غير الآمن، ومضاعفات صحية كان يمكن تجنبها بسهولة بالتوعية المناسبة.
تعزيز العنف القائم على النوع الاجتماعي
عندما يتم تعليم الفتيات أنهن مسؤولات وحدهن عن الحفاظ على “شرفهن”، بينما لا يُطلب من الرجال أي التزامات مماثلة، فإن ذلك يعزز الفكر الأبوي الذي يحمل المرأة مسؤولية أي اعتداء جنسي تتعرض له.
يؤدي ذلك إلى انتشار لوم الضحية، والخوف من التبليغ عن حالات التحرش أو الاغتصاب، خوفًا من الوصمة الاجتماعية.
يقول الباحث المغربي ياسين العلوي، المختص في علم الاجتماع، إن “التربية الجنسية ليست فقط مسألة صحية، بل هي مسألة حقوق وعدالة اجتماعية. عندما يُحرم الأطفال والمراهقون من المعرفة، فإنهم يصبحون أكثر عرضة للخوف، والخرافات، والانتهاكات. في المقابل، عندما يتم تعليم الجنسانية بطريقة علمية، فإن ذلك يساعد في بناء جيل أكثر وعيًا بحقوقه وواجباته.”
كيف يمكن دمج التعليم الجنسي في المناهج دون إثارة الجدل؟
رغم أن النقاش حول التربية الجنسية يثير حساسية دينية واجتماعية في المجتمعات العربية، فإن هناك طرقًا يمكن من خلالها إدماج هذا التعليم بطريقة تتناسب مع الثقافة المحلية، ومنها:
التثقيف وفق المراحل العمرية: يمكن تقديم المعلومات بشكل تدريجي، بحيث تتناول المراحل الأولى مفاهيم الصحة والنظافة الجسدية، ثم تتوسع لاحقًا لمناقشة الجنس الآمن، والعلاقات الصحية، وحقوق المرأة في الزواج.
التركيز على الصحة العامة بدلاً من الجنس الصريح: يمكن تقديم التربية الجنسية كجزء من التعليم الصحي، بحيث يتم التركيز على التغيرات الجسدية، الحماية من الأمراض، والعلاقات القائمة على الاحترام.
إشراك الأسرة والمجتمع في النقاش: بدلاً من فرض التعليم الجنسي دون حوار مجتمعي، يمكن إطلاق برامج توعوية للأهالي والمربين، لمساعدتهم على فهم أهمية هذا النوع من التعليم.
استخدام لغة علمية غير مثيرة للجدل: بدلاً من استخدام مصطلحات قد تُفهم على أنها تشجع على الانحلال الأخلاقي، يمكن تبني لغة طبية وعلمية تركز على الوقاية، والحقوق الصحية، والرفاه الجسدي.
ما هي الدول العربية التي بدأت بإدراج التربية الجنسية؟
رغم المقاومة الشديدة، بدأت بعض الدول العربية بإدراج عناصر من التربية الجنسية في مناهجها الدراسية، لكن بدرجات متفاوتة:
تونس: تعتبر من الدول العربية الأكثر تقدمًا في هذا المجال، حيث أدرجت برامج صحية شاملة تتناول الصحة الجنسية والإنجابية.
المغرب: أدخل بعض المفاهيم المرتبطة بالصحة الجنسية ضمن مقررات العلوم، لكنه لا يزال بعيدًا عن التثقيف الجنسي الشامل.
لبنان: توجد محاولات متفرقة لدمج التربية الجنسية في المدارس الخاصة، لكنها تواجه عقبات سياسية ودينية.
مصر: تتجنب الدولة مناقشة التربية الجنسية بشكل مباشر، لكنها بدأت في التوعية بالصحة الإنجابية وأهمية تنظيم الأسرة في بعض المناهج.
رغم أن العقبات الثقافية والدينية لا تزال تحدّ من انتشار التعليم الجنسي، فإن الواقع الصحي والاجتماعي يفرض الحاجة إلى إعادة التفكير في طريقة التعامل مع الجنسانية في المجتمعات العربية. إن توفير معلومات علمية دقيقة للأطفال والمراهقين لن يؤدي إلى انهيار القيم الأخلاقية، بل سيحمي الأفراد من الاستغلال، والعنف، والمخاطر الصحية.
ويبقى السؤال: هل ستشهد السنوات القادمة تحولًا في النظرة إلى التربية الجنسية في المناهج الدراسية العربية، أم أن هذا الموضوع سيظل من المحرمات المسكوت عنها رغم ضرورته الملحة؟