بينما تروج الحكومات العربية لمشروعاتها التنموية الكبرى، يزداد التدهور البيئي في العديد من البلدان، ويتحمل الفقراء العبء الأكبر لهذا التدهور. مع تزايد النمو الصناعي والاستهلاك غير المستدام للموارد، باتت المجتمعات الهشة أكثر عرضة للتلوث البيئي، حيث تجد نفسها مضطرة للعيش في بيئات غير صالحة، في ظل غياب سياسات حقيقية للحد من التلوث ومحاسبة المسؤولين عنه. فما هي العدالة البيئية؟ ولماذا لا تزال غائبة عن المشهد العربي؟
يشير مصطلح العدالة البيئية إلى المساواة في توزيع الأعباء البيئية وعدم تحميل الفئات الأفقر تكلفة التنمية الصناعية أو مشاريع البنية التحتية الضخمة. في الدول المتقدمة، اكتسب هذا المفهوم زخماً كبيراً، وبرزت تشريعات صارمة لضمان عدم تضرر الفئات الهشة من السياسات الاقتصادية. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، صدرت قوانين صارمة تمنع إنشاء المصانع أو المكبات في المناطق السكنية الفقيرة، بعد عقود من النضال البيئي. أما في العالم العربي، فالوضع مختلف تماماً، إذ تتوسع المناطق الصناعية والمشاريع الكبرى غالباً على حساب الفقراء، دون أدنى اعتبار لتأثير ذلك على حياتهم اليومية.
تلوث الهواء في العواصم العربية: من يدفع الثمن؟
تشهد العديد من العواصم العربية مستويات تلوث خطيرة، ما جعلها ضمن أكثر المدن تلوثاً على مستوى العالم. وفقاً لتقرير أصدرته منظمة الصحة العالمية عام 2023، تحتل القاهرة وبغداد والرياض مراكز متقدمة ضمن قائمة المدن ذات الهواء الأكثر تلوثاً، حيث تتجاوز نسبة الجسيمات العالقة الخطيرة المعدلات الموصى بها بخمسة إلى سبعة أضعاف. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 90% من سكان هذه المدن يتنفسون هواءً ملوثاً، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض التنفسية والقلبية.
في القاهرة، يعود السبب الرئيسي للتلوث إلى الانبعاثات الناتجة عن المركبات القديمة والمصانع العشوائية المنتشرة على أطراف المدينة، حيث لا تخضع للرقابة البيئية الفعالة. ويقول الدكتور حسام البدري، أستاذ الصحة البيئية في جامعة القاهرة، إن هناك “غياباً شبه تام للرقابة الصارمة على مصادر التلوث، ما يجعل الأحياء الفقيرة في العاصمة الأكثر عرضة للأمراض التنفسية، خاصة بين الأطفال وكبار السن”.
التلوث الصناعي: أولوية الربح على حساب صحة الناس
لا تقتصر الأزمة على العواصم، بل تمتد إلى القرى والمناطق الريفية القريبة من المنشآت الصناعية الكبرى. في العراق، على سبيل المثال، تعاني مدن مثل البصرة من تلوث كارثي ناجم عن انبعاثات المصافي النفطية ومخلفات الشركات العاملة في قطاع الطاقة. وتكشف تقارير بيئية محلية أن بعض المناطق المحيطة بمصافي النفط شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات الإصابة بالسرطان خلال العقد الماضي، مع زيادة ملحوظة في نسب التلوث في المياه الجوفية التي يعتمد عليها السكان.
وفي المغرب، أظهرت دراسة أجرتها وزارة البيئة عام 2022 أن 65% من مصادر المياه السطحية في البلاد تعاني من مستويات تلوث خطيرة، خصوصاً في المناطق القريبة من المصانع، حيث تُلقى المخلفات الصناعية دون معالجة حقيقية. ويؤكد الناشط البيئي سعيد الحمزاوي أن “الشركات الصناعية تستفيد من ضعف التشريعات البيئية لتجنب الالتزام بالمعايير، وهو ما يؤدي إلى تلوث واسع للمياه والتربة، يؤثر مباشرة على الصحة العامة”.
رغم الحديث المتكرر عن التنمية المستدامة في المؤتمرات العربية والدولية، فإن معظم الحكومات العربية لم تتبنَّ سياسات بيئية فعالة قادرة على حماية مواطنيها من المخاطر البيئية المتزايدة. في المقابل، نجد أن الاستثمارات في القطاعات الملوثة مثل الصناعات الثقيلة والنفط والغاز تتلقى دعماً حكومياً غير مشروط، بينما تواجه مشاريع الطاقة الخضراء عقبات بيروقراطية وتمويلاً ضعيفاً.
وتكشف تقارير البنك الدولي أن الدول العربية لا تزال تعتمد بشكل كبير على الوقود الأحفوري، حيث يمثل أكثر من 95% من مزيج الطاقة في بعض الدول مثل السعودية والعراق. وتؤدي هذه الاعتمادية إلى استمرار الانبعاثات العالية، في ظل غياب رؤية واضحة لخفض استخدام النفط والفحم لصالح مصادر الطاقة النظيفة.
ويقول الدكتور يوسف لاشين، أستاذ السياسات البيئية في جامعة الإسكندرية، إن “تحقيق العدالة البيئية في العالم العربي يتطلب إعادة هيكلة جذرية لسياسات التنمية”، مشيراً إلى أن “القرارات الاقتصادية في معظم الدول العربية لا تزال تُتخذ دون النظر إلى تأثيراتها البيئية والاجتماعية طويلة المدى”. ويرى لاشين أن المشكلة ليست فقط في غياب القوانين، بل أيضاً في ضعف تطبيقها وغياب العقوبات الصارمة على المخالفين.
العدالة البيئية والتنمية المستدامة: هل هناك أمل؟
رغم التحديات الكبيرة التي تواجه العدالة البيئية في المنطقة، هناك بعض التجارب التي تبعث على الأمل. في الإمارات، أطلقت الحكومة مشروع “المدينة المستدامة” في دبي، وهو نموذج لمدينة تعتمد بالكامل على الطاقة المتجددة وإعادة تدوير المخلفات، وهو ما يشير إلى إمكانية دمج الاستدامة مع التطور العمراني. كما اتخذت تونس خطوات نحو التحول إلى الاقتصاد الأخضر، من خلال سياسات تدعم الطاقات المتجددة وتقلل من الاعتماد على الوقود الأحفوري.
لكن هذه المبادرات لا تزال معزولة، وتحتاج إلى سياسات إقليمية شاملة تضمن عدالة توزيع الموارد البيئية وتحميل الشركات الكبرى مسؤولية الأضرار التي تتسبب فيها. كما تحتاج المجتمعات الهشة إلى مزيد من الدعم، سواء عبر سياسات حكومية صارمة تحميهم من التلوث، أو من خلال تعزيز دور المجتمع المدني في الضغط على الحكومات لتبني سياسات بيئية أكثر عدالة.
العدالة البيئية ليست رفاهية، بل حق أساسي لكل مواطن عربي في بيئة نظيفة وصحية. ومع تزايد المشكلات البيئية في العالم العربي، يصبح من الضروري إعادة النظر في الطريقة التي تدار بها الموارد الطبيعية، وتبني سياسات واضحة لمحاسبة الملوثين، وتعزيز الاستثمار في الطاقة الخضراء. فلا يمكن الحديث عن تنمية حقيقية دون أن تكون هذه التنمية عادلة للجميع، وإلا فإن الفئات الأضعف ستبقى تدفع ثمن سياسات لا تأخذ حقوقها بالحسبان.