Spread the love

تشكل الخطوة الروسية بإرسال نظام دفاع جوي ومدربين عسكريين إلى النيجر تطورًا لافتًا في مسار العلاقات بين البلدين، وتعكس تحولًا أوسع في الجيوبوليتيك الإقليمي بمنطقة الساحل. فمنذ الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2023، أخذت النيجر منحى جديدًا في تحالفاتها، مبتعدةً عن المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة وفرنسا، ومتجهةً نحو موسكو. هذا التوجه يطرح عدة تساؤلات حول دوافع النيجر، وأهداف روسيا، وانعكاسات ذلك على المنطقة وعلى المواجهة الجيوسياسية بين الغرب وروسيا.

حتى الانقلاب العسكري، كانت النيجر الحليف الأهم للغرب في منطقة الساحل، حيث قدمت واشنطن وباريس دعماً عسكرياً ولوجستياً للحكومة المدنية في نيامي لمكافحة الجماعات الإرهابية. لكن بعد الانقلاب، بدأ التوتر يتصاعد بين المجلس العسكري الجديد والغرب، حيث فرضت فرنسا وأمريكا عقوبات اقتصادية، وعلقت بعض المساعدات العسكرية، بينما واصل المجلس العسكري تعزيز روابطه مع موسكو.

قرار إنهاء التعاون العسكري مع الولايات المتحدة في مارس الماضي يعد نقطة تحول رئيسية، حيث كان هناك أكثر من 1100 جندي أمريكي في النيجر، يتمركزون في قاعدة “أغاديز” الجوية، والتي استخدمتها واشنطن في شن ضربات ضد الجماعات المتطرفة في الساحل. كما أدى القرار إلى تفكيك النفوذ الفرنسي نهائيًا في البلاد، بعد أن أجبرت حكومة نيامي باريس على سحب قواتها أواخر عام 2023.

باتت روسيا خيارًا استراتيجيًا للمجلس العسكري في النيجر، ليس فقط كبديل عن الدعم الغربي، ولكن أيضًا لأنها تقدم دعمًا عسكريًا غير مشروط، بعيدًا عن الضغوط السياسية بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يفرضها الغرب. كما أن هناك بعدًا أيديولوجيًا لهذا التحول، فالمجلس العسكري يريد إعادة تأكيد سيادته الوطنية، والتخلص من أي تبعية سياسية أو عسكرية للقوى الاستعمارية السابقة.

تشكل النيجر جزءًا من استراتيجية أوسع تتبعها روسيا في القارة الأفريقية، حيث عززت موسكو نفوذها في مالي، بوركينا فاسو، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وذلك عبر إرسال مدربين عسكريين، وعقد صفقات أسلحة، وتعزيز التعاون الأمني. إن وصول قوات روسية إلى النيجر يعني أن موسكو توسع نفوذها في الساحل على حساب النفوذ الفرنسي والأمريكي، وهو ما يعد مكسبًا استراتيجيًا لها في ظل الصراع الدولي الحالي.

منذ بداية الحرب في أوكرانيا، تبحث موسكو عن تحالفات جديدة لتوسيع جبهتها الجيوسياسية ضد الغرب، ويبدو أن أفريقيا تشكل ساحة مثالية لذلك. فمع تصاعد الاستياء الشعبي من التدخلات الغربية في دول الساحل، تجد روسيا فرصتها لملء الفراغ الذي تركه الغرب، وتعزيز وجودها العسكري والاقتصادي في المنطقة.

إرسال نظام دفاع جوي إلى النيجر هو رسالة واضحة بأن موسكو لا تقدم مجرد دعم سياسي أو تدريبي، بل تمنح أنظمة عسكرية حديثة، وهو ما يعزز موقعها كشريك موثوق مقارنةً بالغرب الذي يضع شروطًا سياسية معقدة مقابل دعمه العسكري.

إدخال منظومات دفاع جوي روسية إلى النيجر، يعني أن موسكو تريد بناء قدرات عسكرية قوية لحماية نيامي من أي تهديدات خارجية محتملة، سواء من الجماعات الإرهابية أو من تدخل غربي محتمل. كما أن وجود مدربين عسكريين روس بجانب الجيش النيجري سيغير من عقيدة الجيش القتالية، ما يعزز من اعتماده على التكتيكات والأسلحة الروسية بدلاً من الأنظمة الغربية.

من المحتمل أن يؤدي التقارب الروسي-النيجري إلى استقطاب جديد في منطقة الساحل، حيث من المتوقع أن تنضم مالي وبوركينا فاسو إلى هذا التحالف الجديد، مما يعني تكوين كتلة إقليمية ذات طابع عسكري وأمني متماسك مدعوم من موسكو. هذا التطور قد يعقد أي محاولات غربية لاستعادة النفوذ في المنطقة، كما قد يؤدي إلى مزيد من العزلة السياسية والاقتصادية للنيجر من قبل الغرب.

يعد فقدان النيجر ضربة قوية للنفوذ الغربي في المنطقة، لا سيما أن النيجر كانت تشكل حجر الزاوية في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب في الساحل. كما أن باريس، التي خسرت نفوذها في مالي وبوركينا فاسو بالفعل، باتت الآن خارج النيجر أيضًا، مما يعني انتهاء الهيمنة الفرنسية التقليدية في المنطقة.

من المتوقع أن تسعى الولايات المتحدة وفرنسا للضغط على النيجر بطرق أخرى، سواء عبر العقوبات الاقتصادية، أو دعم الجماعات السياسية المناهضة للمجلس العسكري. كما أن هناك مخاوف من محاولات زعزعة استقرار النيجر عبر تحريك ملفات الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وهو تكتيك سبق أن استخدمته القوى الغربية في مناطق أخرى.

مع تصاعد التوتر بين روسيا والغرب على مختلف الجبهات، قد تصبح النيجر نقطة توتر إضافية بين القوى الكبرى، مما قد يعرضها لمخاطر تدخلات غير مباشرة أو مواجهات بالوكالة. وإذا استمر المجلس العسكري في تعزيز علاقاته مع موسكو، فإن ذلك قد يدفع واشنطن إلى زيادة دعمها للمعارضة الداخلية، أو حتى دعم تحركات إقليمية ضد نيامي.

قرار النيجر التحول إلى روسيا ليس مجرد خطوة تكتيكية، بل إعادة تموضع جيوسياسي كبير يغير موازين القوى في منطقة الساحل. فبينما يسعى المجلس العسكري لتعزيز سيادته، وتحرير البلاد من النفوذ الغربي، فإنه يدخل في محور جديد تقوده موسكو، وهو ما قد يفتح المجال أمام فرص اقتصادية وأمنية جديدة، لكنه أيضًا قد يجلب تحديات سياسية وضغوطًا غربية متزايدة.

يبقى السؤال الرئيسي: هل تستطيع النيجر الحفاظ على استقلالية قرارها وسط هذا الصراع الجيوسياسي، أم أنها ستجد نفسها في دائرة النفوذ الروسي كما كانت سابقًا تحت النفوذ الغربي؟ وهل سترد واشنطن وباريس بوسائل تقليدية أم أن هناك سيناريوهات أخرى قد تعيد تشكيل مستقبل النيجر بالكامل؟

يبدو أن النيجر باتت في قلب صراع عالمي أكبر منها، وهو ما سيحدد مصيرها السياسي والاقتصادي والعسكري في السنوات القادمة.


“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ

error: Content is protected !!