تبحث تركيا عن بدائل جوية لتعزيز قوتها العسكرية في ظل تعثر صفقة إف-16 الأمريكية وتأخر برامج التصنيع المحلية، مما دفعها إلى التوجه نحو المقاتلات الأوروبية “يوروفايتر”. هذه الخطوة تعكس تحولاً استراتيجياً مهماً في العقيدة العسكرية التركية، حيث تحاول أنقرة التحرر من الضغوط الأمريكية، والتعامل بواقعية مع التوازنات العسكرية في المنطقة، لا سيما في مواجهة التفوق الجوي اليوناني والإسرائيلي. فما هي أبعاد هذا التوجه؟ وما تداعياته على مستقبل العلاقات التركية-الأمريكية والأوروبية؟
تواجه تركيا قيوداً أمريكية مستمرة في الحصول على طائرات “إف-16″، حيث تربط واشنطن الصفقة بشروط سياسية واستراتيجية، مثل تقليل التوتر مع اليونان وعدم تنفيذ عمليات عسكرية في سوريا. ورغم موافقة الكونغرس الأمريكي مؤخراً على بيع المقاتلات لتركيا، فإن عدم تحديد جدول زمني للتسليم والتحديث يترك أنقرة في موقف غير مستقر عسكرياً.
تعكس أزمة “إف-16” امتداداً لخلافات أعمق بين أنقرة وواشنطن، حيث أدت صفقة منظومة “إس-400” الروسية إلى إخراج تركيا من برنامج تصنيع “إف-35” وفرض قيود على تحديث “إف-16” لديها، مما أجبر أنقرة على البحث عن بدائل أكثر مرونة.
تبحث تركيا عن طائرات مقاتلة من الجيل الرابع لتعويض تأخرها في تطوير صناعتها المحلية، و”يوروفايتر” تقدم حلاً سريعاً ومتاحاً دون قيود سياسية صارمة. كما أن تصنيع الطائرة من قبل أربع دول (بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا، إسبانيا) يمنح أنقرة مرونة أكبر في التفاوض مقارنة بالاحتكار الأمريكي.
تعد ألمانيا العقبة الأبرز أمام الصفقة، حيث تتحفظ برلين على تزويد تركيا بمقاتلات متقدمة بسبب توتر العلاقات الثنائية، خاصة بعد الموقف التركي الحاد من إسرائيل خلال الحرب على غزة. ومع ذلك، فإن سابق تجربة ألمانيا في عرقلة بيع “يوروفايتر” للسعودية ثم رفع الفيتو لاحقاً، يشير إلى إمكانية حلحلة الموقف التركي عبر القنوات الدبلوماسية.
يأتي توجه تركيا نحو “يوروفايتر” في سياق سباق التسلح مع اليونان، التي حصلت بالفعل على “رافال” الفرنسية وتتجه نحو “إف-35″، مما قد يمنحها تفوقاً جوياً نوعياً على سلاح الجو التركي. كما أن إسرائيل تمتلك أحد أكثر الأساطيل الجوية تقدماً في المنطقة، مما يفرض على تركيا تعزيز قدراتها الجوية لموازنة ميزان القوى.
ورغم أن تركيا تمتلك أكبر أسطول من الطائرات المسيرة في المنطقة (بيرقدار وأقنجي وكزيل إلما)، فإن المسيرات لا تستطيع تعويض الحاجة إلى مقاتلات كلاسيكية متطورة في معارك السيطرة الجوية، وهو ما يفسر الحاجة التركية إلى أسطول “يوروفايتر”.
إذا فاز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية في الانتخابات المقبلة، فقد يؤدي ذلك إلى إلغاء القيود على صفقة “إف-16″، وهو ما قد يضع تركيا أمام خيار جديد قد يعيدها إلى المعسكر الأمريكي. ومع ذلك، فإن أنقرة تدرك أن الاعتماد المفرط على واشنطن يضعها في موقف تفاوضي ضعيف، لذلك تسعى إلى تنويع مصادر تسليحها.
إذا نجحت أنقرة في إتمام صفقة “يوروفايتر”، فقد يؤدي ذلك إلى تعزيز تعاونها العسكري مع دول الاتحاد الأوروبي، خاصة بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا، مما قد يفتح المجال لشراكات استراتيجية جديدة في مجالات التصنيع العسكري المشترك.
يمكن لصفقة “يوروفايتر” أن تعزز مكانة تركيا داخل حلف الناتو، حيث ستتخلى جزئياً عن الاعتماد على الأسلحة الأمريكية، مما يقلل مخاوف بعض الدول الأوروبية من تقارب تركيا مع روسيا. ولكن في الوقت نفسه، فإن تعزيز قدرات تركيا الجوية قد يثير قلق بعض الدول داخل الناتو مثل اليونان، ما قد يؤدي إلى توترات جديدة داخل الحلف.
رغم أن تركيا رفضت اقتناء مقاتلات “سوخوي” الروسية لتجنب مزيد من العقوبات الغربية، فإن استمرار التعاون مع روسيا في مجالات أخرى مثل الطاقة والدفاع الجوي يشير إلى أن أنقرة لا تزال تحاول الحفاظ على توازن بين القوى الكبرى دون الاصطفاف المطلق مع أي طرف.
تمثل استراتيجية تركيا في البحث عن بدائل جوية خطوة تعكس وعيها العميق بتعقيدات المشهد الدولي والتوازنات الإقليمية. وبينما تسعى أنقرة إلى التحرر من الضغوط الأمريكية عبر التوجه نحو “يوروفايتر”، فإنها تدرك أيضاً أن تحقيق هذا الهدف يعتمد على حلحلة الموقف الألماني، ومواصلة المناورة بين القوى الكبرى. وفي ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة، ستظل القدرة على المناورة وتعدد الخيارات هي مفتاح نجاح الاستراتيجية الدفاعية التركية في السنوات المقبلة.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ