تشهد الحدود الغربية والشمالية الغربية لروسيا تصاعداً ملحوظاً في التوترات الأمنية والسياسية، مع اتهامات روسية لبولندا وفنلندا بتهديد أمنها القومي. هذه التطورات تأتي في سياق تحولات استراتيجية على الصعيد الأوروبي، حيث يتداخل النفوذ العسكري لحلف الناتو مع الخطط الروسية للحفاظ على نفوذها الإقليمي. كيف يمكن قراءة هذه التوترات؟ وما هي التداعيات المحتملة لهذا التصعيد على المشهد الجيوسياسي؟
شهدت السنوات الأخيرة توسعاً تدريجياً في نفوذ حلف الناتو، تجسد بانضمام فنلندا في أبريل/نيسان 2023، وبقرب انضمام السويد. هذه التحركات دفعت روسيا إلى تبني رؤية أكثر عدائية تجاه الحلف، معتبرة أنها تستهدف تقليص نفوذها وتطويقها استراتيجياً. الحدود الطويلة التي تتشاركها فنلندا مع روسيا تعزز من مخاوف موسكو، إذ تجعلها أكثر عرضة لنشر أنظمة دفاعية أو هجمات محتملة من قبل الناتو.
وفي السياق ذاته، تظهر بولندا كفاعل رئيسي في هذه الديناميكية، حيث عززت وجودها العسكري على الحدود الشرقية، مبررة ذلك بالخطر المتزايد الذي تشكله بيلاروس، الحليف الاستراتيجي لروسيا. وبالنظر إلى استضافة مينسك لمقاتلي مجموعة فاغنر، تُعتبر بولندا من أكثر الدول الأوروبية حذراً تجاه التهديدات الروسية.
تصريحات وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو تُظهر بوضوح قلق موسكو من التطورات على حدودها الغربية. الإشارة إلى “عسكرة” بولندا ودورها كأداة للسياسات الأمريكية تعكس عمق التوتر بين موسكو ووارسو، وهو توتر يمتد ليشمل دول البلطيق والدول الإسكندنافية.
ردود موسكو المحتملة قد تتخذ أشكالاً متعددة، تتراوح بين زيادة التواجد العسكري على حدودها، مروراً بنشر أسلحة استراتيجية، وصولاً إلى تعزيز الشراكة مع بيلاروس. هذه الخيارات تهدف إلى خلق توازن قوى في مواجهة التحركات الغربية، لكنها تحمل في طياتها مخاطر تصعيد غير محسوب قد يؤدي إلى صدام مباشر بين روسيا والناتو.
انضمام فنلندا للناتو يمثل تحولا جذريا في التوازن العسكري في شمال أوروبا. هذا الانضمام يفتح الباب أمام استراتيجيات جديدة للحلف، مثل نشر أنظمة دفاعية أو تعزيز التعاون الاستخباراتي على طول الحدود الروسية-الفنلندية. ومع احتمال انضمام السويد، تزداد تعقيدات المشهد، خاصة أن موسكو تعتبر منطقة القطب الشمالي ذات أهمية استراتيجية قصوى، ليس فقط لأسباب أمنية بل أيضاً بسبب مواردها الطبيعية ومسارات الملاحة البحرية.
التصعيد الحالي يعكس تحدياً وجودياً للأمن الأوروبي. فمن جهة، تسعى الدول الغربية لتعزيز تحالفاتها العسكرية كرد على التحركات الروسية في أوكرانيا. ومن جهة أخرى، ترى موسكو في هذه التحالفات تهديداً مباشراً لسيادتها وأمنها القومي.
إضافةً إلى ذلك، التوتر المتصاعد بين بولندا وبيلاروس يشكل خط مواجهة جديداً قد يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة. تصريحات بوتين بشأن الرد على أي عدوان ضد بيلاروس “بكافة الوسائل المتاحة” تزيد من احتمالات تصعيد عسكري مفتوح، خاصة إذا تكررت الحوادث على الحدود البولندية-البيلاروسية.
سيناريوهات المستقبل: إلى أين يتجه التصعيد؟
تعزيز الردع المتبادل: قد تشهد الفترة القادمة سباق تسلح بين روسيا والناتو، مع نشر المزيد من القوات والأسلحة على الحدود المشتركة، ما يعمق حالة عدم الثقة ويزيد من احتمالات وقوع حوادث عسكرية.
التفاوض والحلول الدبلوماسية: رغم التصعيد، قد تلجأ الأطراف إلى فتح قنوات للحوار تهدف إلى وضع حدود للتوترات، خاصة في المناطق الأكثر حساسية مثل القطب الشمالي وأوروبا الشرقية.
انفجار الأزمات المحلية: تصاعد الأحداث على الحدود البولندية-البيلاروسية أو في مناطق مثل بحر البلطيق قد يشعل نزاعات محلية تجر الأطراف الكبرى إلى مواجهة مباشرة.
كيف يمكن للناتو تحقيق توازن بين ردع روسيا وتجنب استفزازها بشكل يؤدي إلى تصعيد غير محسوب؟ وهل تمتلك موسكو القدرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية المترتبة على عزلتها المتزايدة؟ في المقابل، هل يمكن للدول الأوروبية تحمل تبعات الاستمرار في سياسة التصعيد ضد روسيا على المدى الطويل؟
يظل المشهد مفتوحاً على جميع الاحتمالات، مع احتمالية أن تصبح أوروبا مسرحاً لصراع طويل الأمد بين قوى تحاول إعادة تشكيل النظام العالمي وفقاً لمصالحها ورؤيتها الاستراتيجية.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ