Spread the love

لماذا لا تزال صحة النساء تُعامل كمجرد قضية جانبية في السياسات الصحية العربية؟ هل يمكن الحديث عن تنمية مستدامة بينما تُهمل احتياجات النساء الصحية، سواء الجسدية أو النفسية؟ كيف يؤثر غياب الوعي الصحي، وضعف الخدمات الطبية، والأعراف الاجتماعية المقيدة على صحة النساء، ليس فقط على المستوى الفردي، بل على المجتمع بأسره؟

رغم التطور الطبي العالمي، لا تزال النساء في كثير من الدول العربية يعانين من ضعف التوعية الصحية، خاصة فيما يتعلق بالأمراض النسائية والإنجابية. تشير دراسة صادرة عن منظمة الصحة العالمية عام 2023 إلى أن أكثر من 60% من النساء في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا يخضعن للفحوصات الدورية للكشف المبكر عن الأمراض مثل سرطان الثدي وسرطان عنق الرحم، رغم أن هذه الأمراض تُعدّ من بين الأسباب الرئيسية لوفيات النساء في المنطقة.

توضح الطبيبة البحرينية هند الرفاعي، المتخصصة في الصحة النسائية، أن غياب الوعي الصحي لدى النساء ليس فقط نتيجة نقص الحملات التوعوية، بل هو مرتبط أيضًا بموانع اجتماعية وثقافية تجعل الحديث عن بعض الأمراض “محرمًا” أو “محرجًا”. العديد من النساء يتجنبن زيارة الأطباء بسبب الخوف من الوصمة الاجتماعية، خاصة فيما يتعلق بالأمراض الجنسية أو الإنجابية، مما يؤدي إلى تفاقم الحالات وتأخير العلاج حتى تصبح مهددة للحياة.

في بعض المجتمعات الريفية، يكون الحصول على الرعاية الصحية أكثر صعوبة، حيث تواجه النساء عراقيل متعددة، بدءًا من نقص المرافق الصحية، وصولًا إلى القيود العائلية التي تمنعهن من الذهاب إلى الطبيب دون مرافقة أحد أفراد الأسرة الذكور. في اليمن، تُشير التقارير إلى أن نسبة كبيرة من النساء الحوامل لا يحصلن على رعاية طبية ملائمة، مما يؤدي إلى ارتفاع معدل وفيات الأمهات أثناء الولادة، وهو أحد أعلى المعدلات في العالم.

الصحة النفسية: معاناة في الظل

إلى جانب الإهمال في الصحة الجسدية، تواجه النساء في العالم العربي تجاهلًا مضاعفًا عندما يتعلق الأمر بالصحة النفسية. القلق والاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة ليست مجرد حالات فردية، بل هي جزء من معاناة أوسع تعيشها النساء في ظل مجتمعات تفرض عليهن ضغوطًا هائلة، دون أن توفر لهن أي آليات دعم نفسي حقيقي.

في دراسة أجراها المركز العربي للصحة النفسية عام 2022، وُجد أن النساء العربيات أكثر عرضة للاكتئاب بثلاث مرات مقارنة بالرجال، ومع ذلك، فإن نسبة النساء اللواتي يسعين للحصول على علاج نفسي لا تتجاوز 10%، بسبب الخوف من الوصمة الاجتماعية التي تحيط بموضوع العلاج النفسي.

تقول الأخصائية النفسية الجزائرية مريم بلقاسم إن المجتمع يفرض على النساء دور “القوية المتماسكة” التي تتحمل جميع الأعباء دون أن يكون لها الحق في الانهيار أو طلب المساعدة. النساء اللواتي يعانين من اضطرابات نفسية يُنظر إليهن أحيانًا وكأنهن “ضعيفات” أو “فاقدات للإيمان”، مما يجعل الكثيرات يخشين الاعتراف بمشاكلهن النفسية خوفًا من الانتقادات أو النبذ.

في بعض الدول، يزداد الأمر تعقيدًا بسبب غياب الخدمات النفسية المجانية أو أسعار العلاج الباهظة، مما يجعل الحصول على دعم نفسي أمرًا مستحيلًا للنساء من الطبقات الفقيرة. في لبنان، حيث تعاني البلاد من أزمة اقتصادية خانقة، ارتفعت نسبة النساء اللواتي يعانين من اضطرابات القلق والاكتئاب، بينما انخفضت قدرة المستشفيات والمراكز الصحية على تقديم خدمات العلاج النفسي المجاني.

النساء اللواتي يتعرضن للعنف المنزلي أو المجتمعي يواجهن تهديدًا مزدوجًا على صحتهن الجسدية والنفسية. الإصابات الجسدية الناتجة عن العنف ليست المشكلة الوحيدة، بل إن التأثير النفسي للعنف قد يكون أكثر تدميرًا على المدى الطويل، حيث تعاني الضحايا من اضطرابات مثل القلق المزمن، والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة.

تقرير صادر عن الأمم المتحدة للمرأة عام 2023 كشف أن واحدة من كل ثلاث نساء في العالم العربي تعرضت لنوع من أنواع العنف، سواء الجسدي أو النفسي أو الاقتصادي، ومع ذلك، فإن نسبة ضئيلة فقط منهن تلجأن لطلب المساعدة الطبية أو القانونية، إما بسبب الخوف من العار الاجتماعي، أو لعدم وجود قوانين واضحة تحميهن.

توضح الناشطة الحقوقية العراقية سحر الكيلاني أن غياب الحماية القانونية للنساء لا يجعل العنف مستمرًا فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى مشكلات صحية خطيرة لا يتم التعامل معها بشكل كافٍ. الكثير من النساء اللواتي يتعرضن للعنف يعانين من آلام جسدية مزمنة نتيجة الإصابات التي لم تُعالج بشكل صحيح، إضافة إلى التأثيرات النفسية التي قد تستمر مدى الحياة.

النظام الصحي وتقصيره تجاه النساء

رغم أن بعض الدول العربية شهدت تقدمًا في تقديم خدمات صحية مخصصة للنساء، إلا أن النظام الصحي في معظم البلدان لا يزال غير مستجيب بشكل كافٍ لاحتياجات المرأة. العيادات المخصصة للصحة النسائية غالبًا ما تكون محدودة، وأحيانًا تُقدَّم الخدمات بطريقة غير مهنية، حيث يتم إلقاء اللوم على المرأة بدلًا من تقديم الدعم لها.

في بعض المستشفيات، تواجه النساء معاملة تمييزية، خاصة في الحالات المرتبطة بالصحة الإنجابية. النساء غير المتزوجات، على سبيل المثال، قد يُعاملن بازدراء إذا طلبن فحوصات متعلقة بالصحة الجنسية، مما يجعلهن يتجنبن الفحوصات تمامًا، حتى لو كنّ بحاجة ماسة إليها.

الطبيبة الفلسطينية رُبى عبد المجيد، التي تعمل في قطاع الصحة العامة، تؤكد أن النظام الصحي لا يأخذ في الاعتبار الفروقات الجندرية عند تقديم الخدمات الطبية. الفحوصات الدورية التي تحتاجها النساء ليست متاحة دائمًا، والكثير من البرامج الصحية لا تراعي العوامل الاجتماعية التي تمنع المرأة من طلب المساعدة الطبية. إذا لم تكن هناك سياسات صحية تراعي خصوصية احتياجات المرأة، فإن الفجوة الصحية ستظل قائمة، وسيظل وصول النساء إلى الرعاية الطبية الجيدة محدودًا.

إصلاح وضع الصحة النسائية في العالم العربي يتطلب تغييرات جذرية، تبدأ من تطوير سياسات صحية تضمن وصول النساء إلى الرعاية الطبية بدون قيود اجتماعية، مرورًا بتعزيز التوعية حول الأمراض النسائية والنفسية، وصولًا إلى توفير دعم أكبر للنساء اللواتي يعانين من العنف والتهميش الصحي.

التحدي الأكبر لا يكمن فقط في تحسين الخدمات الطبية، بل في تغيير العقلية المجتمعية التي تقلل من أهمية صحة المرأة، وتعتبر أن احتياجاتها الصحية تأتي في المرتبة الثانية بعد مسؤولياتها الأسرية والاجتماعية. ما لم يتم الاعتراف بأن صحة النساء ليست مجرد “قضية جانبية”، بل هي جزء أساسي من أي مشروع تنموي حقيقي، فإن النساء سيبقين يعانين من تهميش صحي يهدد حياتهن وحياة الأجيال القادمة.

السؤال الذي يظل معلقًا: هل يمكن أن نشهد تحولات حقيقية تجعل صحة المرأة أولوية، أم أن التحديات الثقافية والاقتصادية ستظل تعرقل أي تغيير جوهري في هذا المجال؟

error: Content is protected !!